فصل: تفسير الآيات (1- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فإذا انتهى مشهد التأنيب للمجرمين، اتجه الخطاب بالتكريم للمتقين:
{إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين}..
إن المتقين في ظلال.. ظلال حقيقية في هذه المرة! لا ظل ذي ثلاث لا ظليل ولا يغني من اللهب! وفي عيون من ماء لا في دخان خانق يبعث الظمأ الحرور: {وفواكه مما يشتهون}.. وهم يتلقون فوق هذا النعيم الحسي التكريم العلوي على مرأى ومسمع من الجموع: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين} ويا لطف هذا التكريم من العلي العظيم {ويل يومئذ للمكذبين}.. يقابل هذا النعيم والتكريم!
وهنا تعرض في خطفة سريعة رقعة الحياة الدنيا التي طويت في السياق. فإذا نحن في الأرض مرة أخرى. وإذا التبكيت والترذيل يوجهان للمجرمين!
{كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين}..
وهكذا تختلط الدنيا بالآخرة في فقرتين متواليتين، وفي مشهدين معروضين كأنهما حاضران في أوان، وإن كانت تفرق بينهما أزمان وأزمان. فبينما كان الخطاب موجهاً للمتقين في الآخرة، إذا هو موجه للمجرمين في الدنيا. وكأنما ليقال لهم: اشهدوا الفارق بين الموقفين.. وكلوا وتمتعوا قليلاً في هذه الدار، لتحرموا وتعذبوا طويلاً في تلك الدار.. {ويل يومئذ للمكذبين}.
ثم يتحدث معجباً من أمر القوم وهم يدعون إلى الهدى فلا يستجيبون:
{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين}..
مع أنهم يبصرون هذا التبصير، وينذرون هذا النذير..
{فبأي حديث بعده يؤمنون}..
والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبداً. إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدخر لهذا الشقي المتعوس!
إن السورة بذاتها، ببنائها التعبيري، وإيقاعها الموسيقي، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد.. إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب، ولا يتماسك لها كيان.
فسبحان الذي نزل القرآن، وأودعه هذا السلطان!

.سورة النبأ:

.تفسير الآيات (1- 40):

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}
هذا الجزء كله ومنه هذه السورة ذو طابع غالب.. سورة مكية فيما عدا سورتي البينة والنصر وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحده على وجه التقريب في موضعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها، وأسلوبها العام.
إنها طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية. وصيحات. صيحات بِنوّم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخُمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد: اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. إن هنالك إلهاً. وإن هنالك تدبيراً. وإن هنالك تقديراً. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حساباً. وإن هنالك جزاء. وإن هنالك عذاباً شديداً. ونعيماً كبيراً.. اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. وهكذا مرة أخرى. وثالثة ورابعة. وخامسة.. وعاشرة.. ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزاً عنيفاً.. وهم كأنما يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزاً عنيفاً؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب.. وأحياناً يتيقظ النوام ليقولوا: في إصرار وعناد: لا.. ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء.. ثم يعودون لما كانوا فيه. فيعود إلى هزهم من جديد.
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء. وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد، عظيمة القدر، ثقيلة الوزن. وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب. وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس. وعلى أحداث معينة في يوم الفصل. وأرى تكرارها مع تنوعها. هذا التكرار الموحي بأمر وقصد!
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ: {فلينظر الإنسان إلى طعامه...} {فلينظر الإنسان مم خلق...} {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السمآء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت} وهو يقرأ: {أأنتم أشد خلقاً أم السمآء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم} {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات مآءً ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتا وجنات ألفافاً}... {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا المآء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدآئق غلبا وفاكهة وأبَّا متاعاً لكم ولأنعامكم} وهو يقرأ {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شآء ركبك}
وهو يقرأ: {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السمآء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس مآ أحضرت} {إذا السمآء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت} {إذا السمآء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت...} {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} هو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس} {فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق} {والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر} {والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى} {والضحى والليل إذا سجى} الخ.. الخ..
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح. وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية. ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها.. واتخاذها جميعاً دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. مع التقريع بها والتخويف والتحذير.. وأحياناً تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين. والأمثلة على هذا هي الجزء كله. ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم:
هذه السورة سورة النبأ كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد. ومثلها سورة النازعات وسورة عبس تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة.. وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة} وسورة التكوير وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول.
وسورة الانفطار كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم...} إلخ وسورة الانشقاق وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب.. وسورة البروج وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار. وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار. وهو أشد وأنكى..
وسورة الطارق.. وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل} وسورة الأعلى وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وإخراج المرعى وأطواره تمهيداً للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء.. وسورة الغاشية.. وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب. ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال.. وهكذا.. وهكذا.. إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان. كسورة الإخلاص. وسورة الكافرون. وسورة الماعون. وسورة العصر. وسورة القدر. وسورة النصر. أو تسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر، كسور الضحى. والانشراح. والكوثر. والفلق. والناس.. وهي سور قليلة على كل حال..
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات.. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلال، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس} وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر: {فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق} أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري: {والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر} {والضحى والليل إذا سجى} وفي خطابه الموحي للقلب البشري: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك..} وفي وصف الجنة: {وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية..} ووصف النار: {وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهيه نار حامية} والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس.
والعدول أحياناً عن اللفظ المباشر إلى الكناية، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد، لتحقيق التنغيم المقصود، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب..
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثراً في الحس والضمير.
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته: {عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه: {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً}.
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً وفتحت السمآء فكانت أبواباً وسيرت الجبال فكانت سراباً}..
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآباً لابثين فيهآ أحقاباً لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً جزآء وفاقاً إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً وكل شيء أحصيناه كتاباً فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}..
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً: {إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً وكواعب أتراباً وكأساً دهاقاً لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً جزاء من ربك عطاء حساباً}.
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ذلك اليوم الحق فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً إنآ أنذرناكم عذابا قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}..
ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم!
{عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون}.. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل، ولا يكادون يتصورون وقوعه، وهو أولى شيء بأن يكون!
{عم يتساءلون}.. وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب.